على أوتار الحروف 
د. محمد أحمد وريّث mao@moraieth.com صحيفة الشمس- ليبيا
وما دمت قد تكلّمت على شاعر العروبة واليمن الكبير " عبدالله البردونّي " في الأسبوع الماضي ، وما دام الشئ بالشئ يُذكَرُ أو يذكِّر " بتشديد الكاف وكسرها " فإنني أجدها الآن فرصة مواتية للحديث عن الشاعر والأديب الآخر الكبير أيضـاً " على أحمد باكثير " صاحب المسرحيات الشعرية والروايات الكثيرة التي تتَّخذ في مجملها من التاريخ العربيّ الإسلامي موضوعات لها ، وهو صنو " عبدالله البردوني " من اليمن وتحديداً من حضر موت بواديها الكبير الفسيح ، وقد طوَّف " علي أحمد باكثير " في البلاد حتى استقرَّ به التَّرحال في مصر في عام 1933حيث درس بها وتخرَّج في الجامعة منها وصارت له بعدئذ مقاماً وموطناً ومنطلقاً لنشاطه الأدبي حتى وافته المنيّة بها . ومن الواضح في مثل حالة " علي أحمد باكثير " أن أبناء حضر موت أو الحضارمة يهوون الرحلة والسفر ، وقد كانوا في عصورهم القديمة من محترفي ركوب البحر والتجارة ، ولذلك وصلوا بمراكبهم في وقت مبكر من دولة الإسلام إلى جنوب شرق آسيا وهم مع غيرهم من أبناء اليمن نشروا الإسلام في تلك الربوع في دولة " فطاني " وفي ماليزيا أو الملايو كما كانت تسمى وإندونيسيا وغيرها ، وقد ألتقيت في ولاية " كوتابارو " في الشمال الماليزي عدداً غير قليل من العائلات الماليزية والفطانية تنحدر بأصولها إلى جذور حضرمية أو من اليمن بصفة عامة ، ولا تزال آثار عروبتهم بادية على قاماتهم الفارعة ووجوههم المستطيلة وعيونهم الواسعة التي تختلف عن الأجناس الآسيوية الأخرى بأجسامها القيصرة ووجوهها المدوّرة وعيونها الضيقة التي لا تخفى ملامحهما على الناظرين . وإذا كان الشعر المرسل أو الشعر الحر أو الشعر الحديث الذي صار يسمى " شعر التفعيلة " أي الموزون من غير قافية قد صار في ديوان الشعر العربي مدرسة قائمة بذاتها منذ ما يزيد على نصف قرن حين أن أسهم " بدر شاكر السياب " ومن بعده " نازك الملائكة " في نشره في العراق وإنطلاقاً منه ، فإن رائده أو أول من تعمّد أن يكتب به الشعر هو " علي أحمد باكثير " وفي كتابي " حول النظائر الإيقاعية للشعر العربي " الصادر في طرابلس عام 1985 أي منذ اثنين وعشرين عاماً عقدت فصلاً فيه عن التجديد في الشعر العربي ، وتطرقت بالتفصيل إلى تجربة " علي أحمد باكثير " في كتابة شعر التفعيلة عندما كان طالباً في كلية الآداب بالقاهرة قـبل " السياب ونازك الملائكة " بسنين طويلة " حيث يرويها في كتابه " فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية " وذلك حين قال له أحد أساتذته الإنجلـيز " إن اللغة الإنجليزية قد اختصت بالبراعة في الشعر المرسل والتفوق على سائر اللغات ، ومن المؤكد أنه لا يوجد في لغتكم " العربية " ولا يمكن أن ينجح فيها " وولّدت كلمات ذلك الأستاذ الإنجليزي دافعاً إلى التحدي عند " علي أحمد باكثير " ليثبت له أن اللغة العربية طيعة وتتسع لكل شكل من أشكال الأدب والشعر فترجم مشهداً من مسرحية " شيكسبير " ( روميووجوليت ) وصاغه شعراً مرسلاً أي موزوناً دون قافية فاتفق أن جاء الوزن على تفعيلة البحر " المتقارب " ( فعولن ) وهو ما أصبح بعدئذ نواةً لشعر التفعيلة . وأبناء اليمن شعراء بالسليقة ولعلهم بالموارثة كذلك وحسبنا أن نتذكر أو نذكـر أن " إمرءاً القيس " وإن ولد في " نجد " بشمال جزيرة العرب من أصل عريق من اليمن ، وقد جاء على لسانه قوله ذاكراً منطقة " دمّون " اليمانية : ( تطاول الليلُ علينا دمّون - دمّون إنا معشرٌ يمانون - وإننا لأهلنا مُحبّون ) وفي مطولته أو طويلته أو معلقته الشهيرة " قفانبكِ " يسمى الزيت باسمه اليماني المتداول - في ما أظن حتى الآن بين أشقائنا في اليمن - وهو " السليط " حيث يصف الراهب الذي أوقد مصابيحه بغمس الفتائل وإغراقها في الزيت أو السليط في قوله : ( يضئ سناهُ أو مصابيح راهب أمال السليط بالذُّبال المُفتَّلِ ) وتُروى لأمرئ القيس ( مسمطتان ) قصيرتان إذا صحت نسبتهما إليه يمكن أن ينظر إليهما على أنهما خروج على عمود الشعر العربي التقليدي وهو وحدة الوزن ووحدة قافية القصيدة مهما طالت أبياتها ، والتسميط هو نوع من الشعر يبدأ بمطلع ثم بأربعة أشطار من قافية واحدة ويختم بشطر بقافية مخالفة ، ولعَّل هذا مَّما أوحى إلى أهل الأندلس أن يخترعوا فن الموشح الذي صار- بعدئذ - من فنون الشعر العربي الدالة على قابليته للتطور والبعد عن الجمود . وفي مقالة منشورة منذ أكثر من عقدين من الزمن للأديب " د. عبدالعزيز المقالح " شكوى مريرة من غمط حق اليمانيين في ريادة " علي أحمد باكثير " لحركة التجديد المعاصرة في الشعر العربي لأنه كغيره من أبناء وطنه - في رأيي - يعملون في تواضع ودون ضجيج أو كما يقول أبو الطيب المتنبي : ( إذا كان بعضُ الناس سيفاً لدولةٍ ففي الناس بوقاتٌ لها وطبولُ )
|