الخطيئة والتكفير بين باكثير وإبسن

د. أبوبكر البابكري

هذه دراسة مقارنة بين مسرحيتي: (السلسلة والغفران) لعلي أحمد باكثير(1) و(الأشباح) لهنريك إبسن(2) اللتين تتناولان موضوعاً اجتماعياً واحداً يتمثل في عاقبة ارتكاب الفاحشة، وأثر ذلك في مرتكبيها وأسرهم ومجتمعاتهم.

وضع الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن (1828-1906) نمط ما يسمى اليوم بالمسرحية الاجتماعية، ومسرحياته الأخيرة تدور جميعها حول مسألة الذنب(3)، وسبقت مسرحيتُه مسرحية باكثير بأكثر من نصف قرن.
ولا ريب أن باكثير قد قرأ مسرحية إبسن وتأثر بها، وربما أخذ عنوان مسرحيته (السلسلة والغفران) مما ورد في مسرحية إبسن على لسان السيدة (ألفينغ) في حوارها مع القس:
«نعم، عندما أعدتني إلى ما تسميه بطريق الصواب والطاعة... عندما قمت بمدح شيء وروحي متمردة ضده بشكل بغيض. . ومن ثم بدأت بالتمعن في حقيقة الأمور التي أنت تُعلمها. وأردت فقط اقتلاع قطبة واحدة ولكن حالما انفكت تلك القطبة انحل الموضوع بأكمله. وبعدها أدركت بأنها كانت قطباً متسلسلة»(ص66).

وهذا ما نجده متناصاً مع عنوان مسرحية باكثير وفي قول عبد التواب لقاسم بعد أن غفر الأخير للأول:
عبد التواب : السلسلة !
قاسم : السلسلة ؟
عبد التواب : نعم.. السلسلة.. أما تسمع صليلها إذ تنفصم عن عنقي؟
ويقول عبد التواب لأخته آسية بعد ذلك: آسية : عم تتحدث يا عبد التواب؟
عبد التواب: عن السلسلة...
آسية: السلسلة ؟
عبد التواب: أجل يا آسية إنها تحطمت فانفصمت عن عنقي... حطمها غفران قاسم. هنئيني يا آسية . . . أنا الآن حر طليق ! (ص147-149).

هذا تناص واضح بين باكثير وإبسن يدعمه بعد ذلك تشابه الأحداث والشخصيات، مما سيأتي تفصيله لاحقاً. وليس جديداً أن يأخذ باكثير أفكار بعض مسرحياته من مسرحيات غربية؛ ففكرة مسرحيته (شيلوك الجديد) مستوحاة من مسرحية شكسبير (تاجر البندقية)، و(فاوست الجديد) من مسرحية (فاوست) لجوته، و(مأساة أوديب) من (أوديب الملك) لسوفوكليس، فهذا نهج انتهجه باكثير لتقديم رؤى جديدة وكأنه أراد بذلك إثبات ندية الكاتب المسلم للكاتب الغربي في إنتاج أعمال أدبية تضاهي أشهر الإبداع العالمي. فهل نجح في ذلك؟

مقارنة بين أحداث المسرحيتين:
كان الكابتن (ألفينغ) الضابط في القصر الملكي سابقاً - في مسرحية إبسن- خليعاً، مفرطاً في علاقاته الجنسية فأصيب بمرض جنسي لا علاج له يتآكل منه الدماغ ويعيده طفلاً صغيراً. يرث الابن (أوسفالد) هذا المرض من أبيه ويطلب من أمه (هيلينا) قتله بجرعة كبيرة من المورفين وتنتهي المسرحية نهاية مفتوحة تشي بأنها كانت قد فعلت ذلك مع الأب. لا يظهر الأب في مسرحية إبسن فهو يموت قبل الفعل الدرامي، وما يظهر في الفعل الدرامي هو آثار آثامه على زوجته التي اضطرت أن تبعد ابنها عنها وهو في السابعة من عمره حتى لا يتأثر بأبيه فأرسلته للدراسة في باريس، وظلت تعيش مع خادمتها «ريجينا» التي هي ابنة زوجها من علاقة آثمة مع خادمتها السابقة؛ ولأنها لا تريد لابنها أن يرث شيئاً من مال أبيه الحرام فقد أنفقته في الصدقات وبناء ميتم في القرية.
في مسرحية باكثير نجد مرتكب الإثم الأول حاضراً في الفعل الدرامي: إنه (عبد التواب) تاجر، أعزب، في التاسعة والعشرين من العمر، ذو علاقات محرمة يتمادى فيها إلى درجة خيانة صديقه التاجر( قاسم المغربي)في زوجته (غيداء) بعد أن خذله في الضائقة المالية التي أودت به إلى السجن؛ ليستغل بعد ذلك حاجة الزوجة فيتمكن منها فتموت بسبب الإجهاض. ويشعر عبد التواب بالندم بعد ذلك ويقرر التكفير عن خطيئته بتسديد ديون صديقه المغربي فيخرجه من السجن ويعطيه حليّ أخته ليتاجر بها في الشام شراكة بينهما. يجني عبد التواب ثمار إثمه في زوجته التي تحمل سفاحاً في غيبته من (مستور) أخي غيداء، ويتكرر هذا الإثم في زوجة مستور التي تحمل هي الأخرى سفاحاً فيقتلها زوجها ويُذهَب به إلى السجن. تنفك هذه السلسلة من الآثام بالتوبة الصادقة لعبد التواب، الذي يتقبل خطيئة زوجته ويغفر لها زلتها وينسب ابنها إليه، ويموت مطمئناً بعد أن سامحته أم غيداء وصديقه قاسم المغربي.
من الفوارق هنا أن خطيئة (ألفينغ). لا يتبعها تكفير منه هو، بل من زوجته، وآثار إثمه لا نراها فيه، بل في ابنه، بينما نرى عبد التواب يجني ثمار إثمه ويكفر هو عن خطيئته. ونجد في المسرحيتين الإنفاق في أعمال الخير؛ إلا أنه في مسرحية إبسن إنفاق تحاول به هيلينا تلميع صورة زوجها أمام سكان القرية ليجد ابنها بعد إنهاء دراسته سمعة طيبة لأبيه، وهذا ما كانت تؤكده في رسائلها لابنها بالحديث المثالي عن أبيه، ومن ناحية أخرى تريد الأم ألا يرث ابنها شيئاً من هذا المال المدنس كما صرحت بذلك للقس. لكن الإنفاق في مسرحية باكثير إنفاق شرعي من مال حلال على ذي القربى، والغارمين، ووراء ذلك نية صادقة في التوبة وابتغاء الأجر من عند الله؛ لأن الذي ينفق هو الذي ارتكب الخطيئة وصاحب المال، ولاشيء يجبره على ذلك إلا خوفه من الله؛ تبدأ المسرحية بتلاوة خاشعة لعبد التواب للآية القرآنية :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)(الحج، 1-2).

الواقعية في الأحداث :
تتناغم واقعية إبسن مع الواقع الغربي حيث الانحلال الأخلاقي والأمراض الجنسية في القرن التاسع عشر، ولا غرابة لدى القارئ في هذه النهاية المأساوية للمسرحية، وهذا النفاق الذي تحاول هيلينا إظهاره بأعمال الخير، ومحاولة استغلال (إنغستراند) لـ(ريجينا) في الدعارة بحجة أنها ابنته وهو يعلم أنها ليست ابنته، واستغلال القس لأموال التبرعات لمصالحه. هذه كلها صور واقعية للمجتمع الغربي ترمز إلى انحلاله وضياع مستقبله في ذلك القرن. وهذا الإنفاق الكاذب لدى إبسن ترميز لنفاق مجتمع يوشك على الانهيار، وهذا الإنفاق الصادق لدى باكثير تعليمي ينير الطريق للتائبين ويدلهم على وسائل التكفير.


الرؤية في مسـرحية إبسـن محددة بآثام ترتكب ولها آثارها، ونفاق في المجتمع يحول دون ظهور الحقيقة؛ ولذلك تشكلت في مسـرحية قصيرة من فصلين لا مشاهد فيهما، وخمس شخصيات ليـس إلا، ومكان واحد

لقد أراد باكثير إظهار البون الشاسع بين المجتمع الإسلامي في تواده وتراحمه والمجتمع الغربي في تفككه وانحلاله، ومن ذلك مثلاً الإحسان إلى الخدم، يقول عبد التواب لخادمته بعد تقصيرها في العمل، وكانت تتوقع العقاب:
«كلا يا صالحة. . لن تسمعي مني لوماً أبداً.. اتخذي هذا البيت بيتك واعملي فيه كما تعمل صاحبة البيت في بيتها، وإياك أن ترهقي نفسك»(ص 6).
لكن جارية (ألفينغ) في مسرحية إبسن تحمل منه سفاحاً فيعطيها ثلاثمئة دولار لتكتم هذا الأمر. وترحل لتعود ابنتها الاشرعية خادمة في بيت أبيها، وعندما تعلم هذه البنت بالحقيقة في نهاية المسرحية ترحل من بيت أبيها رفضاً لهذا الظلم الذي لحق بها، وكان من حقها أن تعيش كابنة للكابتن (ألفينغ) الضابط في القصر لا خادمة. أما في مسرحية باكثير فنرى (أسامة) الابن غير الشرعي يعيش مكرّماً في بيت أمه ويفضله عبد التواب على ابنته (شافعة)، ويلحقه بنسبه مع أنه ليس من صلبه.

العلاقة المحرّمة استثنائية في المجتمع المسلم؛ تقع فيه (غيداء) بعد غياب زوجها في السجن وحاجتها للمال، و(كوثر) تقع فيها استدراجاً من أم مستور انتقاماً منها لشرف ابنتها غيداء، فكانت تجمع بين ابنها مستور الأعزب وكوثر الغائب عنها زوجها؛ لذلك كله فالأمر هنا استثنائي بدليل أنه يتم في السر، ونرى عبد التواب بعد توبته يطرد القواد الذي كان يحضر له الفتيات الجميلات مهدداً إياه برفع الأمر إلى الأمير أحمد بن طولون مما يدل على شدة العقاب الذي كان يوقعه ولاة الأمر بمن يمتهن هذه المهنة.


أما الرؤية في مسـرحية باكثير فقد تشعبت أحداثها وتزينت بجانب تعليمي، وحرص من المؤلف على إبراز القيم الإسلامية وإيجابيات المجتمع المسلم؛ ولذلك تشكلت فـي ثلاثة فصول

أن يرتكب هذا الشاب الثري الفاحشة في مجتمع مسلم فهذا من الواقعية، وأن يتوب بعد أن أزهق روحاً، وينفق أمواله تكفيراً لذلك فذاك من الواقعية كذلك؛ لكن أن تحمل زوجته فينسب هذا المولود إليه ويورثه ماله، فهذا من المثالية وليس من الواقعية، وإلا لماذا قتل مستور زوجته؟ ألم يفعل هو من قبل كما فعل عبد التواب؟ فلماذا يقتل هذا ويعفو ذاك؟ هل الواقعية في عنف مستور أم في كرم عبد التواب؟ لا تكفي جندية مستور لتبرير جرمه ولا تجارة عبد التواب لتبرير كرمه؛ فمن باب أولى أن يحرص التاجر على عرضه كما يحرص على تجارته. ولعلّ باكثير توقع إنكار القارئ والمشاهد لمثالية عبد التواب فاختار أن يجعل أحداث مسرحيته تدور في عهد الأمير أحمد بن طولون ليوهمنا بواقعيتها التاريخية. وهذه تقنية فنية عوّدنا باكثير على تمريرها في بعض أعماله الأدبية. فقد أوهمنا مثلاً بواقعية رواية (ليلة النهر) حين ذكر في المقدمة أنها قصة الفنان المصري الراحل فؤاد حلمي ولكن الدكتور عبد الحكيم الزبيدي لم يجد أية حقيقة واقعية لهذا الفنان(4). ومما يدعم ما ذهبنا إليه في أن باكثير يمرر مشروعه الفني تارة باسم الواقعية المعاصرة مثلما فعل في (ليلة النهر) وتارة باسم الواقعية التاريخية مثلما فعل في (السلسلة والغفران)، أننا نجد مثل ذلك في رواية (الثائر الأحمر) حين أوهمنا باكثير بأن شخصية (أبي البقاء البغدادي) تاريخية وقد أثبتُ في رسالتي للماجستير أنها شخصية خيالية(5).
وربما تأثر باكثير بمثالية تشيخوف الروسي الذي نرى روعة البطولة لديه في الصمود وتحمل الضغوط الاجتماعية الهائلة مما يصعب أن يتحمله الإنسان الواقعي، وكثيراً ما نلمس هذه المثالية في أعمال باكثير مثل روايات: (سلامة القس) و(سيرة شجاع) و(الفارس الجميل) و(ليلة النهر). إنني أستطيع تسمية ما فعل باكثير في هذه المسرحية بالمثالية الإسلامية حيث باب التوبة مفتوح لا حدود له، ويستطيع المؤمن أن يسمو في أخلاقه حقيقة إلى المثل العليا، تطبيقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة والجلالة:
(. . . وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)(6).

ويمكن القول إن باكثير يسير على منهج أرسطو الذي يرى أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة(7).

المقارنة بين الشخصيات:
أخذت (هيلينا) البطولة في مسرحية إبسن لاقتناعها بنصائح القس عن التضحية والواجب فتحملت المسؤولية تجاه زوجها وابنها، لكنها لم تجنِ إلا السراب من هذه التضحية؛ فالميتم الذي بنته ليرفع ذكر زوجها احترق والابن الذي ضحت من أجله يموت على يديها كأبيه. يموت الكابتن (ألفينغ) قبل الفعل الدرامي؛ حيث لا مجال لشفائه أو توبته، لكن عبد التواب يبقى حيث لم يصبه مرض جنسي، ولم يتوار عن الفعل الدرامي لتتحمل زوجته وابنه آثار إثمه بل أخذ البطولة متحملاً المسؤولية مكفراً عن خطيئته. ومجال التوبة مفتوح في الإسلام وإن أزهق التائب مئة نفس. وهناك خادمتان في المسرحيتين: (ريجينا) وصالحة، وفي كلامهما تورية ينم عن ذكاء، إلا أن (ريجينا) شابة جميلة تعمل خادمة في بيت أبيها؛ لأنها ابنته غير الشرعية، ولهذا وظيفته الفنية في الصراع الدرامي حيث نرى أوسفالد يلاحقها ويكاد يتزوجها لولا كشف الأم حقيقة الأخوة بينهما في نهاية المسرحية. أما صالحة فهي امرأة سمراء كبيرة في السن اشتراها شاب في مجتمع مسلم لتخدمه، يخفف مرحها في الكلام من معاناة عبد التواب. لكن في المقابل نجد ابناً غير شرعي في بيت عبد التواب من زوجته التي حملت سفاحاً من مستور، لكنه يعيش مكرماً كأنه ابن من صلبه. وهذا هو الفرق بين مجتمع غربي لا يحتكم لدين ومجتمع مسلم للدين مكانة فيه.

يُظهر باكثير التماسك الأسري في مسرحيته؛ إذ نجد عبد التواب ينفق على أبناء أخيه غير الشقيق (عبد الجواد) كما ينفق على بنات أخته غير الشقيقة (آسية)، وهذا لا نظير له في المجتمع الغربي. يخطط (إنغستراند) لشراء منزل يجعله نزلاً للبحارة، ويحاول أن يأخذ معه (ريجينا) لممارسة الدعارة فيه. وفي مسرحية باكثير نجد قواداً يجلب الفتيات لعبد التواب. والفرق هنا أن الدعارة في مسرحية إبسن يجاهر بها ويسعى القس فيها، بينما هي مستترة في مسرحية باكثير وعابرة.

لا يوجد رجل دين –بالمعنى الكنسي- في مسرحية باكثير كما هو الحال في مسرحية إبسن، وهذا وعي من باكثير بطهارة الإسلام عن دنس هؤلاء الذين يسيئون للأديان. وعبد التواب يسير في طريق التوبة وينفق أمواله في مجال الخير دون حاجة لمرشد روحي، بينما يهيمن القس على أسرة (ألفينغ) هيمنة مطلقة فيقنع هيلينا بعدم جواز التأمين على الميتم ثم يحرقه ليتصرف في أرضيته بحسب الوكالة التي معه. لكن هناك القاضي بكار الذي يحضره عبدالجواد في نهاية مسرحية باكثير ليستفتيه أمام عبد التواب وهو في مرض الموت عن صحة إلحاق نسب أسامة به، ظناً منه أن القاضي سيفتي بحرمة ذلك، وبالتالي سيرث عبد الجواد من أخيه لأنه ليس له ولد ذكر يحجبه. ولكن القاضي –بكار- يثبت صحة فعل عبد التواب ويذكر له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». ويبدو لي أن باكثير يريد أن يقول إن الإسلام هو دين الفطرة، فعبد التواب نسب أسامة له وأراد له أن يرث منه، دون أن يعلم بالفتيا الشرعية في الأمر. فعل ذلك بالسليقة عن نفس مفطورة على الخير، فجاءت فتوى الشرع مؤكدة لذلك مؤيدة له. ولم يجعل باكثير عبد التواب يستفتي أولاً قبل أن يلحق أسامة بنسبه. وجاء استفتاء عبد الجواد متناسباً مع ما جبل عليه من جشع وطمع، فهو لم يفعل ذلك حرصاً على الحلال والحرام بل طمعاً في أن يرث أخاه بعد موته بعد ان استنزف ثروته في حياته.
و(إنغستراند) رجل استغلالي إلى أبعد حدّ، همه جمع المال مع عدم حاجته له؛ لأنه وحيد، وكذلك عبد الجواد يبتزّ أخاه لا عن فقر وحاجة إلى المال، ولكن استغلالاً لطيبة أخيه وبره به، فهو موظف في الدولة وله مرتب كبير؛ ولكنه بخيل جداً.
ومن حيث الوظيفة في القصور الملكية نجد الكابتن (ألفينغ) ضابطاً في القصر الملكي، وعبد الجواد موظفاً كبيراً لدى الأمير أحمد بن طولون.
أم مستور شخصية درامية رائعة لا ترضى بأنصاف الحلول، تعادي عبد التواب بقوة انتقاماً لابنتها غيداء، وتنجح - رغم إغداقه عليها المال- في النيل من شرفه حين شجعت ابنها مستوراً على الفاحشة. وعندما طلبت منها أم كوثر قابلة لتجهض ابنتها أحضرت لها قابلة أغدقت عليها المال لكي ترعى هذا الجنين حتى يعود عبد التواب من سفره فيرى حمل زوجته سفاحاً رأي العين جزاء وفاقاً. لا نجد مثل هذه المرأة العدوانية في مسرحية إبسن، بل هن مغفلات: القس يستغل هيلينا ويجردها من ثروتها، و(ريجينا) خادمة في بيت أبيها دون أن تعلم بذلك. أما آسية- أخت عبد التواب- فامرأة إيجابية تشارك أخاها أفراحه وأحزانه، وتعطيه حليّها من الذهب حين نفد ماله، وكذلك كوثر وأمها تتحملان المصيبة بصبر جميل وتردان الجميل لعبد التواب.

تشكيل الرؤية:
الرؤية في مسرحية إبسن محددة بآثام ترتكب ولها آثارها، ونفاق في المجتمع يحول دون ظهور الحقيقة؛ ولذلك تشكلت في مسرحية قصيرة من فصلين لا مشاهد فيهما، وخمس شخصيات ليس إلا، ومكان واحد هو قصر الكابتن (ألفينغ) ، وزمن محدد بيوم وليلة، وحوار مكثف يعتمد على الإيحاء. ولذلك كانت دراميتها عالية أكسبتها بعداً رمزياً كلياً للمجتمع الغربي تنبئ بانهياره.
أما الرؤية في مسرحية باكثير فقد تشعبت أحداثها وتزينت بجانب تعليمي، وحرص من المؤلف على إبراز القيم الإسلامية وإيجابيات المجتمع المسلم؛ ولذلك تشكلت في ثلاثة فصول: في الأول ثلاثة مشاهد، ومشهدان في كل من الثاني والثالث. وشخصياتها كثيرة (15 شخصية)، والزمن ممتد أكثر من تسع سنوات ونصف. والمكان: مشهدان في منزل إسماعيل المرزوقي وخمسة مشاهد في منزل عبد التواب. وحوار باكثير رائع وفيه من الإشارات الإيحائية كذلك، ولكنه أسهب في تفاصيل عائلية لا ضرورة لها من وجهة نظري. ولكن هذه الإطالة في التشكيل خاصية تفرد بها باكثير في هذه المسرحية وفي كثير من أعماله الأخرى؛ إنه يترك الفكرة تتشكل فنياً في الشكل الملائم وإن تجاوزت بعض الحدود المتفق عليها مسرحياً عند النقاد؛ مثل (ملحمة عمر) التي جاءت في تسعة عشر جزءاً، ولقد فصلتُ هذا في كتاب لي - تحت الطبع - سميته: (تشكيل الرؤية في مسرح باكثير).

الهــوامش:

1) علي أحمد باكثير: السلسلة والغفران، مكتبة مصر، د ت.

2) هنريك إبسن: الأشباح، ترجمة: رشيد عبد الهادي، دار الأنوار، سوريا- دمشق، 2002.

3) جون غاسنر وأدوارد كون: قاموس المسرح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982، ص7-8.

4) د. عبد الحكيم الزبيدي: باكثير يتنبأ بالمطرب سامي يوسف، موقع ناشري:
"http://nashiri.net/component/content/article/2531.html"http://nashiri.net/component/content/article/2531.html، (9 ديسمبر 2005)

5) د أبوبكر البابكري: روايات باكثير التاريخية، سلسلة إصدارات جامعة صنعاء لعام 2005 .

6) الحديث رواه البخاري (باب التواضع) رقم /6137/.

7) أرسطوطاليس: فن الشعر، ت: د. شكري عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ص 64.