بلاد الشـام والرافدين فـي مسـرح باكثير
مقاربات فنية دلالية

د. عمر عبد العزيز

من المعروف أن المسرحي والسارد والشاعر علي أحمد باكثير أنجز سلسلة واسعة من المسرحيات والأعمال الدرامية والتي توّجها بمسلسله الأطول عن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب... ذلك المسلسل الذي استبق فيه باكثير مُجايليه من جهة، سواء من حيث الطول أو الاجتراح .. كما استبق فيه الزمن الرقابي الإعلامي العربي وكأنه ينجز عملاً سيرى النور ذات يوم قادم، والشاهد أنه كان عليماً تماماً بمنع ظهور صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أعمال تلفزيونية درامية.. لكنه تأسّى بالمستقبل ووعوده، وأنجز ذلك العمل الفريد والأطول من نوعه إلى يومنا هذا.

أحببت الإيماء إلى هذه المقدمة للتدليل على باع الراحل الكبير في النص الدرامي بأشكاله المسرحية والتلفزيونية بل والسينمائية، فبالرغم من أنه لم يُعرف بوصفه كاتب سيناريو سينمائي إلا أن مراجعة عابرة لأعماله الروائية سترينا مدى حضور الثقافة المشهدية السينمائية في تلك الأعمال.. وكنتُ قد قدمت قبل حين لرواية «الفارس الجميل» وأشرت فيها لهذه الذائقة حيث قلت إن الفارس الجميل هو آخر الأعمال الروائية للكاتب الشامل والمثقف الموسوعي الراحل علي أحمد باكثير، حيث اعتمد باكثير في هذه الرواية على فكرة الاختزال الشديد والسرد الواضح الموشى بالنصوص التاريخية واستعارة لغة الزمان والمكان، إيماء إلى طريقة التعبير عند العرب في عصر الدولة الأموية، وقد استطاع باكثير في هذه الرواية المختصرة تصوير البيئة السياسية والاجتماعية التي ترافقت مع الصراع المحموم بين بيوتات الحكم العربية، تلك التي اختزلت عوامل التوسع الإسلامي في منطق المغالبة والظفر العسكري، فكانت الدماء والفتن والويلات مما نعرف عنه الكثير في تاريخنا المسطور.

ومنذ استهلال الرواية يفاجئك باكثير بصورة مشهدية عامة للبصرة، تلج بك إلى خفايا النفس البشرية، فالقائد السياسي الأمير مصعب بن الزبير «الفارس الجميل» يصل إلى البصرة حاملاً في دواخله ذلك التناقض السافر بين منطق الحرب، وحالة الاسترخاء الإنساني في أحضان الزوجات الحبيبات. إنه يترك ساحة الوغى لبضعة أيام لعله يهنأ بحياة مختلفة مع زوجاته الأربع، وبتركيز خاص على اثنتين منهن تمثلان الجمال والدلال، الحسب والنسب، بل فكرة الاعتلاء بالمثال القادم من أساس الزواج النبيل، لكنه لن ينعم بالهدوء والاستقرار، ولن يتمكن من استدعاء حياة الراحة والطمأنينة، وهو القائد السياسي الذي يواجه البلايا والفتن والأنواء والدسائس في كل خطوة من خطواته، بل إنه يواجه حرباً «ناعمة » داخل منزله، فزوجته سكينة بنت الحسين تؤهله للانتقام التاريخي من مقتل والدها الحسين عليه السلام، مُتفننة في ضروب الكلام والتأثيرات النفسية عليه، حتى يقبل بأن يكون رأس حربة لهدفها السامي «الانتقام»، وزوجته الأخرى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله مُستغرقة في نرجسية الأنا المترعة بالجمال والدلال، فهي الآسرة والأسيرة، وهي النقطة المحورية في حياة الأمير الأبيقورية.

ثم تأتي أدوار زوجتين «إضافيتين» تكملان حياة الزوج المحارب والقائد، فإذا بهذا المسكين يترنّح بين لحظات الألق الجميل، وحالات الحروب الكيدية النسائية القاتلة، ومحنة اجتماع أربعة نسوة على رجل واحد حتى ولو كان بمكانة ووسامة مصعب، في إشارة دالة على صعوبة أن تتوزع القلوب وأن تقبل المرأة بشريكة لها في مِثالها الحياتي.
لن يشفع لمصعب بن الزبير النصر المؤزر على خصمه «المختار بن أبي عبيد» كيما يمنع مذبحة بشعة تُقام لأنصار خصمه بالرغم من توفر المبررات المنطقية في كسب ود هؤلاء، فالمنهزمون من أنصار المختار بن أبي عبيد يعرضون على الأمير مصعب بن الزبير أن يكونوا من جنده، وفي الصفوف الأولى من الجيش الذي سيذهب إلى الشام لمقاتلة عبدالملك بن مروان وجيشه، لكن نزعة الثأر المتأصلة في النفوس تجعل أنصار مصعب يصرون على قتل الأسرى، وهكذا يتم ذبح ثلاثة آلاف فارس في ليلة ليلاء!!، ويظل مصعب يعيش هواجس الرعب والخوف مما جرى، فالانتقام كان من الخساسة والجبن إلى درجة التضحية بثلاثة آلاف رجل في ليلة واحدة، وما تم كان إضعافاً مؤكداً لمكانة مصعب الذي حاول قدر جهده تلافي المصير المشؤوم للأسرى، وكان مصعب في ذلك الموقف أشبه بالحاكم الروماني الذي سلم السيد المسيح لمصيره بعد أن عجز عن إقناع اليهود بالتخلّي عن فكرة الانتقام منه، فظهر حاكماً ضعيفاً وكانت اللحظة التاريخية التي ترافقت مع رغبات اليهود موازية لفتنة تاريخية جرت بين اليهود والمسيحيين.

مصعب بن الزبير الذي واجه محنة مشابهة إثر ذبح أنصار المختار سيواجه أخرى أقسى وأمرّ، فحالما يذهب لزيارة الخليفة «عبدالله بن الزبير» المقيم في الديار المقدسة «مكة» يعود خائباً، فإذا كان الأمير مصعب يسوس البلاد بالمرونة والكرم، فإن أخاه الخليفة يرفض التفريط في المال العام، ويوصف من قبل خصومه بالبخل الشديد، بل إنه يتقمّص حالة طهرانية تذكرنا بحالة الإمامين علي والحسين رضي الله عنهما، دون أن يأخذ العبرة مما حاق بهما أمام دهاء وبراغماتية يزيد بن معاوية .

لا يقدم علي أحمد باكثير نصائح وعظات، بل يصور ما جرى بلغة روائية تمازج بين الوصف والحوار والشواهد، وبنزعة درامية تجعلك أمام مشاهد ملحمية سينمائية جاهزة، ولا ينقصها إلا لمسة مخرج حصيف، وهو فيما يقدم المشاهد الحوارية المنتقاة بعناية وسبكة جميلتين، يُظهر أيضاً البُعد الآخر لتجليات الحروب والتراجيديا الحياتية، كما أنه يستغور في نفوس أبطاله، سابحاً في فضاء الأنا المترعة بالأحزان والحنين، الأنا غير القادرة على منع الدراما الوجودية الصعبة، المحاطة بالأجواء المخملية المترفة، وبالحالات الشجية لأيام الصفاء والهناء العابرة والمعجونة بالدماء والدموع!


نموذج باكثير لا يعني غياب نماذج استعادت التاريخ بطريقة مُتخشّبة، فالمعلوم أن التردي الثقافي التاريخي تعبير عن بُعد مجتمعي لا يُنكر، غير أن التعميم هو الخطر الأكبر، فتباين الآراء حول تلك المرحلة لا تجعلنا بحال من الأحوال نقلل من مكانة أسماء مثل الجواهري أو البردوني

يتعمّد باكثير تركيز بؤرة الضوء على الأمير مصعب بن الزبير بوصفه برزخ التفاصل والتواصل بين خليفتين للمسلمين، الأول أخوه عبد الله بن الزبير الذي يعتبر عبد الملك بن مروان مارقاً خارجاً عن إرادة الدولة ونواميسها، والثاني صديقه الحميم عبد الملك بن مروان الذي يحاول مصعب تلافي مصادمته، تماماً كما هو الحال بالنسبة لعبد الملك أيضاً، والذي تمنى دوماً عدم مقاتلة مصعب، غير أن المنطق الداخلي للقوة والغلبة أكبر من الصداقة والإخاء معاً .
يفاجئنا الروائي الحصيف علي أحمد باكثير بقطع إشاري استثنائي، بل بمونتاج ذهني لاستشراف القادم دون كلام، فيختصر الحروب القادمة والهزيمة المؤكدة لخلافة عبدالله بن الزبير ومقتل مصعب بن الزبير في آخر لقاء للوداع بينه وعبد الملك بن مروان .
ينهي الرواية وهي في حالة تواصل ضمني مع القادم الأفدح والأكبر!!

في ذلك اللقاء الأخير وما سبقه من مشاهد وشواهد حوارية نغوص في أعماق الأبطال، ونتابع النزعة البطولية، والشهامة، وحالات التطيُّر المحفوفة بالماوراء .

إن باكثير لا يقدم رواية تاريخية فحسب، بل سيكولوجية بامتياز، وهو إلى ذلك يكاشف ذلك الاشتباك غير الحميد بين العرب والتاريخ، فالمجد موصول بالدماء، والسلطة موصولة بالمُلك، كما أنه يتقرّى عبقرية المكان ونواميسه في عديد الإشارات التي تومئ لأهل العراق بوصفهم «أهل شقاق ونفاق» وأهل الشام بوصفهم «أهل طاعة وولاء»، وبغض النظر عن تقييمنا لما جاء أصلاً على لسان الحجاج بن يوسف الثقفي، إلا أن العراق كان ومازال بؤرة اشتعال تاريخي تستدعي من القارئ لسيكولوجيا الجماهير العربية أن يبحث عن الأسباب العميقة وراء ذلك. ذهب بعض الذين قرأوا رواية «الفارس الجميل » لعلي أحمد باكثير إلى أنها إسقاط ونبوءة لمصائر نظام عبد الناصر، لكنني شخصياً لا أرى ما يجمع عبد الناصر بالخليفة عبدالله بن الزبير، ولا أود هنا أن استطرد في إجراء مقابلات ثنائية بين طبيعة الظروف التي كانت في عهد عبد الله بن الزبير وكيف أنها اتسمت بعامل جوهري مداه الصراع الداخلي، فيما كان عبد الناصر يواجه صراعاً من نوع آخر. أيضاً كان عبد الله بن الزبير يسوس الدولة بفرمانه الشخصي تماماً كحال الإمبراطوريات والممالك القديمة، فيما كانت دولة عبد الناصر تتعامل مع مصالح البشر من خلال المؤسسة الحديثة مهما كانت مثالبها .

لا أزعم أن باكثير كان يولي كبير عناية للإسقاط المباشر «من التاريخ إلى الحاضر»، بل كان يرى في عبرة التاريخ ما هو قمين بالتأمل، وكان يرى أن خرائب الماضي مازالت تنوء بكلكلها على الزمن العربي الذي عاشه الروائي والمسرحي والشاعر علي أحمد باكثير.

لكن الأهم من هذا وذاك والذي قصدت الإشارة إليه تمثيلاً لاحصراً أن باكثير لم يكن بعيداً عن الحداثة المعرفية والذوقية، بل وظّف العناصر الدرامية السينمائية في هذه الرواية كغيرها من أعماله، وبطريقة تشي بالاستيعاب والذائقة الجمالية الراكزة، وهذا دليل آخر على أن الإحيائيين النهضويين لم يكونوا بعيدين عن حاضرهم ومستقبل الإبداع العربي أيضاً.

نموذج باكثير لا يعني غياب نماذج استعادت التاريخ بطريقة مُتخشّبة، فالمعلوم أن التردي الثقافي التاريخي تعبير عن بُعد مجتمعي لا يُنكر، غير أن التعميم هو الخطر الأكبر، فتباين الآراء حول تلك المرحلة لا تجعلنا بحال من الأحوال نقلل من مكانة أسماء مثل الجواهري أو البردوني اللذين لم يسطعا فقط في بيان التاريخ الجمالي والشعري، ولكنهما واكبا العصر، فقد كان البردوني من أكثر المتصلين معرفياً وذوقياً بكل شاردة وواردة في الشعر العربي المعاصر، وكان مُجدداً بالرغم من اعتماده العمود والقافية، تماماً كما كان أبو نواس أو المتنبي، فلماذا يجوز لأبي نواس ولا يجوز للبردوني أن يطور وفق قالب استوعبه وأدرك أسراره ، وعرف مغاليقه؟
مما سبق يتضح لنا مدى إقامة باكثير في الزمن الروائي بتعددية أشكاله وأنساقه.. كما يتضح لنا مدى تشبّعه بالمعارف التاريخية المركوزة في أساس وتضاعيف التاريخ الإسلامي.. أيضاً وبالتوازي مع ذلك، كان عليماً بثقافة الرأي والكلام التاريخيين.. قارئاً للملل والنحل.. والفرق والأهواء.. قريباً من الثقافة الإسلامية الرشيدة مما يذكرنا بأصوله الحضرمية اليمانية المُتّصلة بالوسطية الأشعرية الشافعية.
لكن تلك الإقامة المديدة في استنطاق التاريخ البعيد وأحواله كانت دالته الكبرى في الاقتراب من تخوم الهموم المعاصرة للوطن العربي، ولهذا جادت قريحته بسلسلة واسعة من المسرحيات والنصوص الدرامية المُحايثة للأمة وأحوالها.
كانت شعرية باكثير الأفقية. وانسيابات قلمه الرشيق، وذاكرته المتَّقدة، وثقافته الدرامية، عاملاً حاسماً في إنتاجه من الناحيتين الدلالية والفنية.

الشـام وبلاد الرافدين
بعد هذه التوطئة نتوقف الآن أمام كتاباته المسرحية ذات الصلة بالشام وبلاد الرافدين، ونبدأ بالعراق الذي كتب عنه مسرحية مطولة من أربعة فصول تناول فيها جملة من القضايا الحيوية في عهد الملك المقتول بوحشية.. الملك فيصل الأول، ورئاسة الحكومة من قبل نوري السعيد الذي قتل أيضاً، وكأن نواميس القتل السياسي أصل أصيل في ثقافة العرب التاريخية التي مازالت تعيد إنتاج بؤسها بكفاءة بالغة..
من خلال قراءة متمعنة للفصول الأربعة ذات العناوين التالية:

«اصمدي يا بغداد/ الصرح الشامخ/ حفلة التكريم / عودة الحجاج»
من خلال هذه القراءة نقف أمام الإشارات الدالة التالية:
الملك فيصل غائب عن المشهد تماماً، ولا ذكر له، وكأنه «شاهد زور» على الحال والمآل.. ولقد قيل إن المرحوم فيصل كان يعيش حياة أبيقورية ويكتفي بحاكميته التاريخية الموروثة، تاركاً أمر الحكم والحكومة لرئيس وزرائه نوري السعيد، بما يذكرنا بالبدايات الواعدة للملكيات الدستورية الفولكلورية العربية التي لم تتحقق حتى الآن بكل أسف.
تعمَّد باكثير أن يستبعد الملك إجرائياً، راهناً مصير البلاد والعباد بسياسة الحكومة التي يمثلها نوري السعيد.

نوري السعيد المُتماهي سلباً مع ولاة الأمر الأقحاح «الإنجليز»، مقيماً في عقيدة سياسية راسخة، مداها السير وفق ما يريده الكبار وعدم المعاندة والرفض.. والإشارة هنا لا تطول نوري السعيد، بل تضعنا مباشرة أمام الحالة العربية الراهنة، حيث يندرج السير على درب الكبار وما يؤشرون به في خانة «الطاعة» لولاة الأمر العالميين الذين لا نقوى على مناكفتهم.

هل كان باكثير يستقرئ القادم وهو يكتب عن حالة سياسية تراجيدية في عراق ما بعد الحرب العالمية الثانية .. أم أنه أراد نبش الحقيقة المؤلمة أملاً في انفراجة مستحيلة؟!
ينعطف بنا باكثير إلى حالة تشبيك وتداخل معقد نستقرئ فيها وجوداً متنوعاً لقوى اللعبة السياسية الدولية من خلال حوار لمّاح يؤشر إلى المكانة العاتية لمنتصري ما بعد الحرب العالمية الثانية وهما: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومن خلال ذلك الحوار نقف على التميمة السحرية التي اعتدَّت بها بريطانيا ومازالت.. تلك التي تشير إلى أن بريطانيا تمتلك «الدهاء والدماغ» وبهذا تتميز.

ما أعجب هذا الاستنتاج الذي أثبتت الأيام صلاحيته.. فبريطانيا كانت ومازالت تمثل أركز «غرفة عمليات» لمخططات الشرق الأوسط، وفي جوهرها المسألة الفلسطينية، ذلك أن بريطانيا هي صاحبة «وعد بلفور»، وهي التي تتوفّر على قواعد بيانات ومعلومات شاملة للمنطقة العربية التي وقعت تحت الاستعمار البريطاني.. وهي المؤسسة الاستعمارية التاريخية الوحيدة التي تمكَّنت من تعمير مساحة اتصال وانفصال مع مستعمراتها السابقة، وهي الشاهدة الحاضرة على تصاريف الأحوال في المنطقة منذ ذلك الحين.

في حرب «غزو العراق» الأخيرة طالبت بريطانيا من حليفتها المندفعة الولايات المتحدة بتحديد العتبات التالية للواقعة العسكرية.. لكن أمريكا وأخذاً بسياسة «الفوضى الخلاقة» اعتبرت النصيحة البريطانية أدباً سياسياً وعسكرياً ينتمي للماضي، فيما اعتدت بقوة السلاح والمبادأة الشاملة، وكان لها ما أرادت من تحقيق مخطط الغزو.. لكنها بعد ذلك غرقت في أوحال العتبات التالية للفعل العسكري، مما أكد ويؤكد دهاء السياسة البريطانية وقراءتها الحصيفة للمنطقة.

نحن هنا أمام حالة مشابهة وبأثر رجعي، فالمفاوض البريطاني لا يعتد بفلسفتي الكبار من الأمريكان والسوفييت.. بل يباشر حواراً منظوماً مع نوري السعيد ووفده، دونما تفريط بالأصول البروتوكولية ذات الصلة بثقافة العرب.