فن النقائض بين علي أحمد باكثير ونزار قباني

د. حسن الأمراني

فن النقائض فن قديم، يعود إلى الجاهلية، وإن كان عصره الذهبي هو زمن بني أمية. ويلتقي مع المعارضة في أنه لا بد للشاعر الذي ينقض قصيدة غيره أن يلتزم بما التزم به الشاعر السابق من وزن وقافية ومعانٍ، إلا أنهما يختلفان من حيث إن الشاعر الذي يلجأ إلى النقيضة إنما يلجأ إليها ليهدم بنيان الشاعر السابق، وأن يهدم معانيه وأن يتفوق عليه فنياً.
ولم يلجأ باكثير إلى هذا الفن كثيراً، ولعل سبب ذلك أنه كان عفّ اللسان، وأنه انشغل بالبناء بدلاً من أن يشغل نفسه بالهدم. ومع ذلك نجد له نقيضة رهيبة هي من آخر ما نظم باكثير إن لم تكن آخرها، فهي تعود إلى عام 1969، وهو العام الذي توفي فيه باكثير. وهذا يدل من جهة أخرى على أن باكثير ظل ينظم الشعر إلى آخر أيامه، على عكس ما ذهب إليه بعض الباحثين الذي يرون أنه هجر الشعر بعد اكتشافه الرواية والمسرحية.

وأما القصيدة التي ناقضها باكثير فهي قصيدة نزار قباني التي ألقاها في بغداد عام1969 ، بعد عامين على هزيمة حزيران، يونيو1967 ، وعنوان قصيدة نزار (إفادة في محكمة الشعر)، وإن كانت اشتهرت على ألسنة الناس بعنوان (مرحباً يا عراق)، ولعله لهذا السبب اختار باكثير أن يجعل عنوان قصيدته (مرحباً يا عراق..)، ومطلع قصيدة نزار:
مرحباً يا عراق، جئت أغنيك وبعض من الغناء بكاء

والنقيضة عادة تعتمد على مجموعة من الأسس، ذكر بعضها الأستاذ أحمد الشايب في كتابه (فن النقائض)، ومن هذه الأسس القلب أو التكذيب أو التهوين أو التهويل، يأتي بها إما كلها وإما ببعضها. وقد كان باكثير يعمل على نقض كل ما جاء به نزار، بالتكذيب أحياناً، وبالقلب أحياناً، مستعملاً أسلوب السخرية اللاذع في كثير من الأحيان.

كلتا القصيدتين تتجاوز المئة بيت، فكأن باكثير يجاري نزاراً في طول النفس أيضاً، ويستطيع القارئ أن يدرك في يسر أن باكثير قد استوعب قصيدة نزار استيعاباً تاماً، مما مكنه من أن يرد عليها في مفاصلها.
دارت قصيدة نزار على الهجاء، كمعظم شعره السياسي، فهو إما يهجو الأنظمة وإما يهجو الشعوب، وإما يهجو الأمة العربية حكاماً ومحكومين. وهو هنا في همزيته لا يغادر أسلوبه ذاك، ويضيف إليه عنصراً آخر وهو هجاء الشعراء.

إن أهم ما يأخذه باكثير على نزار إجمالاً هو أنه غرق عشرين عاماً في بحر النساء والخمرة وكل لذة حرام، ثم لما وقعت الهزيمة قام في قصيدته يسب العرب ويهجوهم أنظمة وشعوباً، وينسب إليهم الهزيمة. ولم يسلم زملاؤه الشعراء من هجائه، ولكنه يجعل نفسه هو وحده شاهداً شهيداً، وأن الناس لا يرجمونه إلا لأنه يصدع بالحق، وينطق بالصدق، وأنه إنما يحاصر لأنه يطالب بالحرية. يقول نزار:

زعموا أنني طعنت بلادي وأنا الحبّ كله والوفاء

أيريدون أن أمصّ نزيفي؟ لا جدار أنا ولا ببغاء

أنا حريتي إذا سرقوها تسقط الأرض كلها والسماء

ويقف موقف الأنبياء والقديسين، سائلاً الله أن يغفر لمن رجموه:

لا تعاقب يا ربّ من رجموني واعف عنهم لأنهم جهلاء

إن حبي للأرض حبٌّ بصيرٌ وهواهم عواطف عمياء

إن أكن قد كويت لحْم بلادي فمن الكيّ قد يكون الشفاء

وكل ذلك مما سينقضه باكثير عروة عروة. آثر نزار لقصيدته الخفيف وزناً والهمزة رويّاً، فاتبعه باكثير في ذلك، شأن أصحاب النقائض، وجوّد على صاحبه عندما اختار التصريع الذي تنازل عنه نزار، كما رأينا . قال باكثير في المطلع:

القوافي كما اشتهيت نساءُ والتعابير كلها حّناءُ

ويحشد باكثير لمقدمة قصيدته قدراً من مفردات المعجم النزاري المعروف، من الفراش، والدفء، والاشتهاء، والشهوة، والنساء، والحناء، والغرام، والمخدع،.. إلخ... لينتهي إلى كشف زيف ادعاءات نزار الذي دخل الساحة وهو يحمل سيفاً خشبياً، يلوّح به ذات اليمين وذات الشمال، ليتمخض الجبل فإذا هو نملة عرجاء، فنزار في الحقيقة لم يصبْ إلا نفسه. يقول باكثير:
عجباً، من يكون؟ ليث من الأرز(م) عقابٌ... لبؤة.. عنقاء

قدرٌ في أواخر الدهر يأتي قدرة تنهض الرميم، قضاء

جئت أسعى وفي الجوانح شوق رف جفنٌ به وطال رجاء
حائر الظلّ، أسأل الركب: أين الليث؟ أين الخرّيدة العصماء؟
فأشاروا، فأقبل الليث نحوي فإذا الليث نملة عرجاءُ

إن باكثير يمارس نوعاً من القلب ظاهراً، فهو لم يصف نزاراً بأنه نملة عرجاء إلا لأن الشاعر الدمشقي وصم غيره بتلك الصفة حين قال معرّضاً بشعراء عصره:

كل شعر معاصر ليس فيه غضب العصر نملة عرجاءُ

فما دام شعر نزار ليس شعراً غاضباً، بل هو شعر الشهوات الدنيا، فهو إذن -بحكم نزار نفسه- نملة عرجاء. وإذا قال نزار :
أكل الحبّ من حشاشة قلبي والبقايا تقاسمتها النساء

قال باكثير:
أكل الحبّ قلبه والبقايا لحستها قبل الجهاد النساء
وإذا قال نزار:
يسكن الحزن كالعصافير قلبي فالأسى خمرة، وقلبي الإناء
قال باكثير:
مسترق له خبيئة عبدٍ نصفه شهوة ونصف إناء

وحين يغالي نزار، ويشبه جرحه بجرح الحسين قائلاً:
إن جرحي يمشي على قدميه وخيولي قد هدّها الإعياءُ
فجراح الحسين بعض جراحي وبصدري من الأسى كربلاء

قام باكثير يفند دعواه قائلاً:
جلّ جرح الحسين عنْ جرح ماخورٍ، وجلت عن مثله كربلاء

هو جرحٌ يمشي على قدميه سبق الحاءَ في التلّفظ راء

ولما صنف نزار نفسه ضمن قائمة شهداء الحرف قائلاً:
كل من قاتلوا بحرف شجاع ثم ماتوا فإنهم شهداء

رد باكثير قائلاً:
كل بيت لولا المجانة أمسى جحفلاً كل جنده شهداء

وإذا قال نزار:
مرحباً يا عراق، هل نسيتني بعد طول السنين سامراء؟
قال باكثير:
كيف تنساه يا عراق على الرملة يلهو وحوله الأتقياء
كيف تنساه مخدعاً وضجيعاً يتملى فيحتوي ما يشاء

وعندما يبكي نزار حريته المسلوبة يقول باكثير:
يا كثير البكاء أسرفت في الدمع رويداً ماذا أعاد البكاءُ؟
أنت تبكي حرّيّة سرقوها منك فالحبّ في النحيب شفاءُ
تلك حرية السفاح فمهلاً ليس للعهر عندنا خلفاءُ

وإذا قال نزار:
كل حرف كتبته كان سيفاً عربياً، يشعّ منه الضياءُ

تعقبه باكثير قائلاً:
عشت خمسين سبّة ليس فيها من كريم الخصال زيت يضاءُ

ويرد على قول نزار:
نرفض الشعر كيمياء وسحراً قتلتنا القصيدة الكيمياء
في فمي، يا عراق، ماءٌ كثيرٌ كيف يشكو من كان في فيه ماء؟
بقوله:
ليس يبغي سوى الحوار نظيفاً حركته الأصابع الكيمياء
في فم الضيف يا عراق مياهٌ كيف يحكي من كان في فيه ماء؟

وعلى عادة نزار في قصائده الهجائية، فإنه لا يدع الموتى يستريحون حتى يهز قبورهم هزّاً، بمن فيهم العلماء والأدباء. وإذا كان في بعض قصائده ينعى الكتب الصفراء، والكتب القديمة، التي يرى أنها لا تحمل غير الهزيمة، كما في قصيدته (هوامش على دفتر النكسة) فإننا نجده في هذه الهمزية يقول:

سقطت في الوحول كل الفصاحات ومات الخليل والفراء

وهل ركب نزار إلا عروض الخليل ولغة الفراء؟

فلذلك يقول باكثير:
عشت يا سبّة الزمان على الفصحى، ومات الخليل والفرّاء

ثم ما يلبث نزار أن يرد سبب الهزائم كلها إلى الدين، جوهره وعرضه، صحيحه وسقيمه، ذلك بأنه يجمع على صعيد واحد بين الأتقياء والدراويش والأولياء، فيقول:

يا فلسطين لا تنادي عليهم قد تساوى الأموات والأحياء
أيها الراكعون في معبد الحرف (م) كفانا الدوار والإغماء

مزقوا جبة الدراويش عنكم واخلعوا الصوف أيها الأتقياء

اتركوا أولياءنا بسلام أيّ أرض أعادها الأولياء؟

فيتتبعه باكثير ويرد عليه مسفهاً رأيه، ويجدها مناسبة لشرح موقفه، فيصدح قائلاً:
يا فلسطين من أضاعك منّا أصحيح أضاعك الأولياء؟

ليس كالدين قوٌة تقدح الثأر(م) فتعنو لناره الهيجاء

كلّ سيف يُسلّ يهتف بسم الله عوناً فتستجيب السماء

من ثرى كل بقعة تهب الأرضَ (م) بنيها فتسمع الأصداءُ

(وا نبيّاهُ) صرخةٌ صُدِعَ الباطلُ منها، ورنّت الأرجاءُ

كان نزار في مقدمة القصيدة قد ذكر بغزواته في ميدان العشق، فكان مما قال:
كل أحبابي القدامى نسوني لا نوار تجيب.... لا عفراء

فكان أن رد باكثير بقوله:
من يعير الفتى الغرير فؤاداً لا (نوار) به ولا (عفراء)

إنه أزمع الجهاد وحسب المرء عزم من بعده استرخاء

إن يُطلْ شتمَ عرضهمْ تستزيدوا منه ما شاءت الإناث وشاؤوا

لم يبالوا، لم يغضبوا، لم يثوروا أغلب الظنّ أنهم ظرفاء

ويقول نزار:
يا فلسطينُ لا تنادي قريشاً فقريش ماتت بها الخيلاء

لا تنادي الرجال من عبد شمسٍ لا تنادي، لم يبق إلا النساءُ