البنية المضمونية في ملحمة عمر
المقدمة أنموذجاً

 

مها المحمدي

قسم المؤرخون التاريخ إلى صغير يشمل أخبار القصور والبلاط وما يدور فيها من صراع دموي وكيدي، وهو الذي يقزم دور الأمة ويحطم روحها المعنوية، وكبير يعنى بإنجاز أمة من الأمم في المجال العسكري والسياسي والإنساني والعلمي ودورها في خدمة البشرية، «هو الجزء الذي يشكل عطاء الأغلبية العظمى من المجتمع في حقبة ما، وهو الأمر الذي يؤكد هوية الأمة وقدرتها على العطاء وعبقريتها الخاصة»(1).
لقد فقه الكاتب علي أحمد باكثير حقيقة التاريخ الكبير، لذا التفت إليه على صهوة الإيمان المطلق يستدعي من ذاكرته المحفورة في جبينه تحت ربوة أصابها وابل فطل فازدهرت جنات عدن لتكون مداد وحي قلمه.

لليونان ملاحمهم التي وافقت معتقداتهم وزمانهم وللإسلام ملاحمه التي توافق سماوية عقيدته وكل الأزمنة. وإذا كان علماء الفلك المسلمون قد نقوا هذا العلم من الخرافة في الأمم السابقة، فإن أديبنا باكثير قد نقى ملحمته من أسطورة الأمم البدائية وخرافاتها ليبعث أسطورة الإسلام النقية في أمير المؤمنين الفاروق – رضي الله عنه – ماضٍ عظيم يتجدد يُسقطه على واقع أليم يعتمد فيه أسلوب المفارقة بين الماضي الأغر والحاضر الموجع إلى المستقبل الذي يتمناه المخلصون لأممهم .

استغرقت ملحمة عمر من الناحية النصية تسعة عشر جزءاً، هي:
1 - على أسوار دمشق، وتشمل المقدمة في مشهدين.
2 – معركة الجسر
3 – كسرى وقيصر
4 – أبطال اليرموك
5 – تراب من أرض فارس
6 – رستم
7 – أبطال القادسية
8 – مقاليد بيت المقدس
9 – صلاة في الإيوان
10 – مكيدة من هرقل
11 - عمر وخالد
12 – سر المقوقس
13 – عام الرمادة
14 – حديث الهرمزان
15 – شطا وأرمانوسة
16 – الولاة والرعية
17 – فتح الفتوح
18 – القوي الأمين
19 – غروب الشمس
ويمكن ضم أحداث الملحمة عموماً ضمن خمسة محاور، هي:
ملابسات تولي عمر بن الخطاب للخلافة.
حركة الفتوح الإسلامية: تصوير لمجمل الحياة السياسية والدينية والاجتماعية في بلاد الفتح «فارس والروم»، ودولة العرب الناشئة.
تنظيم الدولة الإسلامية.
طابع الحياة الإسلامية بمبادئها، وقيمها الأخلاقية.
اغتيال الفاروق

نموذج المقدمة:
تتكون المقدمة من مشهدين، كل مشهد يتضمن عدداً من الأحداث. تجري أحداث المشهدين في حجرة في بيت أبي بكر بها سرير واطئ لا يرتفع عن الأرض إلا قليلاً، ولها كوة تطل على المسجد النبوي الشريف.

المشهد الأول:
يرفع الستار عن أبي بكر راقداً على فراشه، وعنده زوجته أسماء بنت عميس. ويبدأ المشهد برسم اللقطات المشهدية الآتية :
بحث الصبي محمد عن خذروفه الذي أخفته أمه وانقطعت خيوطه
رؤية أبي بكر المتعمقة إلى الخذروف الذي رأى فيه عمر الإنسان بين الدوران إلى الثبات ومن ثم الموت.
انتباهه لصوت طائر الدبسي «طوبى لك يا طائر ، تأكل من الثمر ، وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك!».

وفي افتتاحية الكاتب باكثير لقضيته المحورية «مسألة الخلافة» بهذه الالتفاتة توظيف لنقل المحمول الدلالي للموقف، فيستحيلان إلى مؤشرين لطبيعة الرؤية المؤمنة بالأشياء واستخلاص العبرة من كل حركة في الكون. فحركة الخذروف ثم سكونه يستلهمان لبناء صورة معادلة لحركة الإنسان تلخص مشاعر أبي بكر في لحظات الذبول وإحساسه بالنهاية. أما الطائر فيصبح مثيراً لبناء مقارنة بين حياته وحياة الإنسان، وغبطة الخليفة للطائر على حياته التي لا يترتب عليها أدنى حساب في الحياة، بعكس الإنسان.

القضية الرئيسة في المشهد:
دخول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وعرض بعض قضايا النقاش:
أولاً: قضية تقسيم الفيء
ثانياً: ولاية خالد بن الوليد
ثالثاً: موقف عمر من الخلافة
رابعاً: تذكير بموافقة القرآن لمواقف عمر
خامساً: مبايعته بالخلافة
ويختتم المشهد بخروج عمر ودخول أهل أبي بكر الذي عاودته الحمى.
وبنهاية المشهد الأول نجد أن الكاتب قد تصرف بالمادة التاريخية فاقتنص من حياة أبي بكر عدداً من المواقف المتعلقة بشخصية عمر، أي أن الشخصية الثانوية في المسرحية المتمثلة بأبي بكر قدمت في السرد لتقوم بمهمة كشف السمات الخاصة بالشخصية الرئيسة المتمثلة بعمر، وذلك ما استغرقه صلب المشهد الأول. أما الافتتاحية ومشهد الاختتام فهما بنيتان فنيتان لتسويغ التسلسل الزمني للمسرحية. وبذلك نستطيع القول إن الشخصية المسرحية قد تم تشكيلها من خلال المنظور الرؤيوي للكاتب وهو منظور معلوم مسبقاً منذ العنوان، يسعى لتقديم شخصية عمر عبر النسيج النصي بوصفها شخصية ملحمية، إيجابية، متفردة.

المشهد الثاني ويتضمن:
انعقاد المجلس النخبوي للموافقة على اختيار عمر خليفة لأبي بكر وانقسامه إلى مؤيد ومعارض، وبعد نقاشات ممتدة لأكثر من جلسة يتم الاتفاق عليه.
كتابة عهد الولاية.
لقاء الجماهير لأخذ البيعة.
حوار أبي بكر مع الابنة الصديقة، عائشة – رضي الله عنها.
وصية الخليفة الراحل للخليفة القادم.
لقاء الأهل الأخير.
أول مهام الخليفة الجديد
وفي المشهدين السابقين استطاع الكاتب التصرف في المعلومة التاريخية من خلال آلية الخيال. لا شك في أننا أمام عمل فني يتواشج فيه الخيالي بالواقعي، والفني بالتاريخي، ينزع الكاتب إلى التاريخ لا ليمنحه سلطة التحكم في الفني وإنما ليستثمره في حمل البنية الفنية، وتجسيد الرؤية الفكرية. ولذلك فإن الكاتب علي أحمد باكثير يلجأ إلى الذاكرة الخيالية بين الفينة والأخرى يلتقط منها ما يسعه في نقل مشاعره وأفكاره إلى القارئ، ومن ذلك رسمه للمشاهد التخييلية التالية:
1 – على مستوى الحدث:
عندما بدأ الكاتب الحوار في المشهد الأول من المقدمة (الجزء الأول من العينة)، بدأه بحوار دار بين أسماء زوج أبي بكر وابنها محمد حول خذروفه، واختتم المشهد الثاني أيضاً عند موت أبي بكر بنفس النقطة التي بدأ منها في إعادة الحوار حول الخذروف. فما الخذروف؟ ورد في لسان العرب مادة (خذر): «الخُذروف شيء يدوره الصبي بخيط في يده فيُسمع له دوي. والجمع خذاريف»(2).
فماذا يقول أبو بكر عندما تسأله الزوجة: كيف تجدك الساعة؟ يقول: «الحمد لله. إنما مثل المرء في حياته يا أسماء كمثل خذروف الصبي، بينما هو يدور حتى لا تضبطه العين من شدة دورانه، إذاً هو اللقى لاحراك به! أتسمعين هذا الطائر يا أسماء؟».

ترد : هذا الدبسي يا خليفة رسول الله فوق غصون الشجر.
يقول : «طوبى لك يا طير، تأكل من الثمر وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب. يا ليت أبا بكر مثلك».

2 - على مستوى اللغة:
لقد أجاد الكاتب مناسبة مستوى اللفظ (الخُذروف) مع زمن المسرحية التي يكتبها. «إن أهم ما يعول عليه في تجاوز المعنى الحرفي المباشر إلى المعنى الأسلوبي المفارقي هو السياق ونعني بالسياق هنا اللغوي وسياق المقام أو الموقف التبليغي والسياق التاريخي أو السياق الخارج عن النص»(3). لقد استطاع الكاتب أن يبرز السيكولوجية الدقيقة في تلك اللحظة الحرجة من حياة أبي بكر، ذلك المؤمن الذي كان يدرك تماماً أن الحياة لابد منتهية حين كان في أوج قوته فكيف به والموت ينازعه الحياة. إن لكل مجتمع بل ولكل فرد فلسفته في الموت، الخذروف بيد الصبي يلعب به ويدوره والإنسان بيد الأقدار تشده وتجذبه وتدوره إلى أن تنقطع حياته كما تنقطع خيوط الخذروف، فيكف عن الدوران. لقد استجمعت جملة «يدور حتى لا تضبطه العين من شدة دورانه»، مما يدل على عدم القدرة على التركيز، إلى «اللقى لا حراك به». لقد تجاوزت الجملتان المبنيتان على كلمة واحدة هي الخذروف مرحلة استجماع المعنى لدى القارئ إلى مرحلة الاستيعاب، ومن ثم تمام التصور للنهاية. لذا فقد كانت نهاية المشهد الثاني عودة الطفل محمد يسأل أباه: أما زلت عليلاً يا أبت؟ متى تقوم من فراشك؟
ويرد أبو بكر: قريباً إن شاء الله يا محمد، أين خذروفك؟ فإني لا أراه معك؟

محمد: تقطعت خيوطه فلم يعد يدور. قلت لأمي أصلحيه لي، فأبت. هل آتيك به يا أبت لتصلحه لي؟ إلا أن أبا بكر يثقل لسانه ويدخل في السياق. ويكرر محمد السؤال حتى تجذبه عائشة. ومما يدعم المعنى تقابل الطفل بحركته الدائبة بين داخل البيت وخارجه وحركة الخذروف الدائر، مع الأب المريض الملقى لا حراك به والخذروف المنقطع الخيوط. وكذلك هي الحياة: صغير مقبل على الحياة كثير الحركة وكبير مدبر عنها ومنقطعها.

ويبقى السؤال: لمَ ربط الكاتب هذا المعنى الذي تخيله بالعبارة المثبتة تاريخياً على لسان أبي بكر بشأن الطائر، التي لم يثبت أنه قالها في مرضه الذي مات فيه؟ ألأنَّ الرجل أصبح لقىً لا حراك به والطائر يطير حرّاً؟ أم لأن روح المؤمن المحلقة تبحث عن فضاء المكان الذي لا حدود له وترفض السجن في الجسد وفي دنيا الذنوب، وتود لو طارت إلى حيث لا مكان ولا زمان يحكمها؟ لقد أضفى كل ما سبق على وجدان القارئ حقائق مسلّمة بالن